غزة – من محسن الإفرنجي - لم يبصر الطفل الرضيع "كرم " بعد الدنيا و لم يتعرف على معالمها باستثناء معلم وحيد هو الفقر الذي أصابته تأثيراته مبكرا جدا كما أصابت مئات الأطفال الغزيين المحرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية "التقليدية".
الطفل الرضيع كرم العبسي10 أشهر، من أحد أحياء مدينة غزة يتجشم والده العاطل عن العمل في ظل بطالة متفشية عناء التنقل و تكاليفه التي لا يطيقها لحصول طفله على بعض المكملات الغذائية بما فيها الشوربة والفواكه بعد أن تم تشخيص إصابته بفقر الدم.
وعلى مدار ثلاثة أيام أسبوعيا يضطر والد الطفل العبسي لاصطحابه إلى مؤسسة أرض الإنسان الخيرية بغزة، المعنية بالرعاية الصحية والتي تقدم مساعداتها لحوالي (16) ألف طفل.
و قال د.عدنان الوحيدي ، المدير الطبي لجمعية أرض الإنسان الخيرية " استمرار الحصار يهدد أطفال غزة، وينذر بتدهور أوضاعهم الصحية، في ظل مؤشرات تؤكد أن معدلات فقر الدم تجاوزت60 في المئة و11 في المئة من أطفال غزة دون سن الخامسة مصابون بمرض التقزم الغذائي و4.1 في المئة مصابون بلين العظام". وأضاف: "شهدت مراكزنا ارتفاعا في حالات فقر الدم بين الأطفال خلال عام 2008 ولا زال هذا الارتفاع مستمرا".
كما شهدت مراكز الجمعية خلال الأشهر القليلة الماضية تزايدا في عدد النساء اللواتي يعاني أطفالهن من نقص في الوزن أو الهزال، واللواتي كن إما قد فقدن أزواجهن خلال الحرب الإسرائيلية على غزة أو أن أزواجهن يعانين من البطالة.
وحذرت وكالات الأمم المتحدة ومسئولون من وزارة الصحة وأخصائيو الرعاية الصحية وعدد من المنظمات غير الحكومية في غزة من تزايد خطر سوء التغذية لدى الأطفال الغزيين جراء الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة بالإضافة إلى الحرب الإسرائيلية و الحصار المتواصل.
مخاطر بألوان المعاناة
وحول مائدة الطعام في مركز تغذية الطفل التابع لجمعية أرض الإنسان تجمعت الأمهات يطعمن أولادهن الصغار وجبة من اللحوم الطازجة وشوربة الخضروات التي يتم توفيرها بشكل مجاني على أمل أن تسهم في تحسين أوضاعهم الصحية المتردية و لو بالحد الأدنى.
وجلست الأم فاطمة خليل (32 عاماً) من مخيم النصيرات وسط قطاع غزة التي تغطي ملامح وجهها علامات الفقر و الحزن وهي تطعم طفلتها الصغيرة كوردة ذابلة ترش عليها الماء لتنعشها وذلك بمقر الجمعية المكتظ بالنساء والأطفال المصطفين للعلاج والمراجعة و "غالبية الأطفال هادئين" والسبب إصابتهم بحالات الضعف والهزال التي تحول دون أن يكونوا "مشاغبين" مثل باقي الأطفال في عمرهم.
وتقول فاطمة: "عندما أحضرت ابنتي هنا أول مرة، كان عمرها 6 أشهر، و تعاني من نقص في الوزن. لم أكن أعرف كيف يمكن أن أحسن صحتها". واستدركت قائلة:" لكن المركز ساعدني وساعدها، والآن صحة ابنتي أفضل بكثير و هذا المكان هام جداً لأطفالنا لأنه يقدم وجبات غنية بعناصر التغذية بتبرع من وكالة الغوث الدولية أونروا".
ولكن ثمة مخاطر أخرى ناجمة عن ارتفاع مؤشرات سوء التغذية ذكرها مسئولو منظمة الصحة العالمية تتمثل في زيادة حالات التقزم والهزال ونقص الوزن لدى الأطفال واستمرار ارتفاع معدلات فقر الدم بين الأطفال والنساء الحوامل.
ونقل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عن منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي قولهما :"إن تقييما نوعيا لمستوى الأمن الغذائي في قطاع غزة لعام 2008 وأوائل عام 2009، أشار إلى تزايد مستويات انعدام الأمن الغذائي بالمقارنة مع عام 2007" وهو ما أكده الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني من أن القدرة على اقتناء المواد الغذائية واستهلاك الطاقة في قطاع غزة قد انخفضت بنسبة 10 بالمائة خلال الفترة بين 2005 و2007.
وكانت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف) ذكرت خلال شهر كانون الثاني (يناير) الماضي أن 10.3 بالمائة من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من التقزم (انخفاض الطول بالنسبة للعمر)، لافتا إلى أن هذه النسبة شهدت ارتفاعا مضطردا على مدى السنوات الأخيرة.
و "ينتج التقزم في العادة عن نقص مزمن في البروتينات والمغذيات الدقيقة، بما فيها الحديد والفيتامينات الأساسية ويعاني أكثر من 10 بالمائة من الأطفال في غزة من سوء التغذية المزمن" وفقا لمسئول بمكتب منظمة الصحة العالمية بغزة، محمود ضاهر.
وقال ضاهر "فقر الدم منتشر بين الأطفال والنساء الحوامل في غزة، وتتفاوت نسب الإصابة وفقا لمدى توفر المواد الغذائية وللحالة السياسية والاقتصادية في المنطقة".
مهددون بالتقزم
تقديرات منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة لشهر نيسان (أبريل) من العام الماضي 2008 أشارت إلى أن قطاع غزة يضم حوالي 255 ألف طفل تقل أعمارهم عن خمس سنوات، منهم حوالي 26 ألف طفل معرضون لخطر سوء التغذية و657 طفلا مهددون باحتمال التقزم فيما ذكرت منظمة الأغذية والزراعة أن حوالي ثلثي السكان، 50 بالمائة منهم دون سن 18 عاما، يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
كما أوضحت اليونيسيف أن عدد الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من سوء تغذية حاد وهزال (انخفاض الوزن بالنسبة للطول) في غزة قد تضاعف تقريبا خلال الفترة بين عامي 2006 و2008، مرتفعا من 1.4 إلى 2.4 بالمائة.
وأعربت منظمة الصحة العالمية عن قلقها إزاء الارتفاع الكبير في نسبة المصابين بالهزال في القطاع، مشيرة إلى أن 2.5 بالمائة من أطفال غزة الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات كانوا يعانون من نقص الوزن بالنسبة للوزن المرجعي لسنهم عام 2008.
وليس غريبا أن تشهد أوضاع الأطفال الغزيين تدهورا و تراجعا مخيفا في ظل تصاعد وتيرة الحصار الإسرائيلي وارتفاع نسبة البطالة بصورة غير مسبوقة مع ازدياد أعداد الفقراء و المعوزين يضاف إليهم المشردين جراء الحرب وآلاف الأسر الذين يعتاشون على المساعدات الإنسانية.
وبالنظر إلى ما ذهبت إليه منظمة "اليونيسيف" ، بربطها بين سوء التغذية وانخفاض استهلاك المواطنين للحوم (البروتينات الحيوانية)، وتدني استهلاك الفاكهة وتدني دخل الأسرة مقارنة بحجمها فإن الواقع يكشف عن حقائق مذهلة فكيف يمكن لرب أسرة أن يوفر لأبنائه اللحم الطازج الذي يبلغ سعر الكيلو الواحد منه ما يعادل (15) دولارا.
وشهدت أسواق غزة انخفاضا كبيرا في توفر الفاكهة الطازجة والمواد البروتينية بسبب الإغلاق المستمر للمعابر، الذي منعت إسرائيل بموجبه حتى المواشي من دخول غزة حسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
ويرى د. الوحيدي أن معدلات حدوث الأمراض في غزة وفي فئات معينة قد ازدادت باطراد حتى على صعيد "النوعيات المرضية و كميتها" عازيا ذلك إلى حرمان أهالي غزة من توفر العناصر الغذائية المتوفرة في المواد الغذائية الطازجة.
و "الحرمان من المواد الغذائية لفترة تزيد عن أسبوعين كفيل بحدوث الأمراض ومنها نقص فيتامين " أ" وفيتامين " د" وضعف القدرة على تطوير الخلايا المناعية ، ونقص الحديد الذي يفسر النمو المتزايد من مرض فقر الدم وحدوثه في كافة الأعمار " وفقا للوحيدي.
وأمام هذه الأوضاع المأساوية تنعدم البدائل لآلاف العائلات الغزية التي تكتوي بنيران الحصار الملتهبة وتعاني نقص المواد الغذائية لتحقيق غذاء متكامل وصحي لأطفالها، فلا تجد أمامها إلا المساعدات الإنسانية والإغاثية رغم أنها لم تنج من العقوبات الإسرائيلية .